الجمعة، 6 أبريل 2012

أبها.. أنشودة المطر




طلال آل الشيخ  (جريدة الوطن)
مدينة تنسج من مساحاتها الواسعة، وتضاريسها الرائعة، وأراضيها الشاسعة، خيوطا من حرير أخضر أخّاذ. يتأرجح
مدينة تنسج من مساحاتها الواسعة، وتضاريسها الرائعة، وأراضيها الشاسعة، خيوطا من حرير أخضر أخّاذ. يتأرجح بصرك من دهشة إلى دهشة، بين روعة المكان، والأمطار والغيوم، سحب تعانق الجبال المهيبة، فرح وسعادة يملآن دواخلك حد النشوة، عناصر تتحول إلى عشق وانتماء وطيب مقام.
يعجز من رشف من جمالها رشفة واحدة أن يغادرها ولو لساعات قليلة، تلكم هي مدينة أبها البهية؛ حيث الحياة تمتاز بالدفء والحنان والاطمئنان الذي يندر أن تجده في مدينة أخرى، هادئة حد الراحة والاسترخاء، رغم أنشطة وفعاليات صيفها المتميز، وحيوية زائريها وعاشقيها من داخل وخارج السعودية، فمواقعها السياحية تأسرالألباب وتسرالنفوس وتزيل الهموم، وتمنح شعورا بالحياة والحيوية إلى جانب الراحة والاستجمام.
عندما كلفت بمهمة رئاسة تحرير "الوطن"، كان أكثر ما يشغل بالي، وهاجسي المضاعف الذي لا يغادر ذهني، البعد عن الرياض التي لم أعتد مغادرتها لفترات طويلة منذ الميلاد، خصوصاً أنني أعتبر نفسي من فصيلة الأسماك في ارتباطها بالمكان، إذ عندما تخرج من الماء تموت مباشرة، ومياهي دائماً هي الرياض التي قضيت فيها سني عمري، فهي عندي وباقي الأرض صحراء.. تحتضن أصدقائي وأسرتي وذكرياتي التي تمنحني الراحة كلما مررت بأحد شوارعها، لذلك عندما حزمت أمتعتي متوجهاً إلى أبها، بدأت تجتاحني هواجس الغربة والبعد، وكنت أبحث عما يمكنني فعله كيلا تطول مدة بقائي في أبها، دون أن يؤثر ذلك على عملي مهنياً، أهرب منها إلى الرياض حتى ألتقط أنفاسي وأتمسك بحياتي، ولم أكن أدري أن هنالك مدناً قادرة على أن تمنح الحياة وتغيّر بوصلة القلب، وقادرة على أن تنتزعك من ذكرياتك انتزاعا، وتجبرك على الهروب إليها بحثاً عن الراحة والجمال، بل الحياة بكل معانيها وعناصرها.
عروس المنطقة الجنوبية، أبها مدينة للجمال والخضرة والجبال والطبيعة والتضاريس والأمطار والأجواء الآسرة، ويزيدها جمالاً طبيعة إنسانها الذي يتباهى بالكرم والجود والشهامة، والتعاون والتواصل والترحيب واحتضان الضيوف، والسهر على راحتهم، فتشعر بأنك صاحب الدار وسيد المدينة.
في أبها لا تلاحقك عقدة "للعوائل فقط" التي ترهق الكثيرين في غيرها من المدن السعودية، ولا تتبعك "الأعين"، فأنت تأتي بعائلتك وتفترش أي مكان بكل بساطة وهدوء وتستمتع بجمال الأجواء والطبيعة الخلابة دون أن يضايقك أي شيء.. مدينة هادئة حالمة يتعانق فيها السحاب والجبال في تلاقٍ أبدي، وتغسلها الأمطار يومياً لتعيد جمالها البهي، تمنحك بضبابها اليومي شعوراً باحتفاء الطبيعة بك عندما يدنو ليلامس سدها بحنان وعطف وشوق في منظر شبه يومي. لغة أهالي أبها البصرية مشغولة بمبادلة الطبيعة ما تمنحهم من جمال وروعة يومية، بعيداً عن ملاحقة الناس ومواقعهم وأوضاعهم. تعاملهم مع الآخر يرتكز على الترحاب والكرم العربي الأصيل، فالأبهاوي يرحب بك "ألفاً" وليست مرة واحدة، حتى يفوز بفرصة الاحتفاء بك وتقديم ما هو أكثر من واجب الضيافة العربية، فأهلها متمسكون بجميل الأصالة العربية، لم يغيرهم اختلاطهم وتواصلهم مع عدد من الثقافات والحضارات الأخرى، من خلال تواجد السياح والزوار والمقيمين بينهم بشكل مستمر ويومي، ولم تبدلهم متطلبات الحياة الحضارية والمدنية التي ينعمون بها من خلال المجهودات التنموية الضخمة التي أسس لها الأمير خالد الفيصل واستمر عليها الأمير فيصل بن خالد، فأينعت وأثمرت وازدهرت، إلا أن أبها حافظت على طبيعتها الخلابة، وجمع إنسانها من التاريخ والموروث أجمل ما فيه، ومن التطور والتنمية أحدث ما توصل إليه الإنسان ، فكان نموذج الإنسان "الأبهاوي" الفريد.
أبها مدينة تمتلك كل المؤهلات لتتقن لغة "السياحة" بطلاقة، إذ تحفها ـ طوال العام ـ أجواء يندر وجودها في منطقة أخرى، وتمتاز بطبيعة مناخية متنوعة تلبي مختلف الأمزجة والرغبات، ويغشى مرتفعاتها وسهولها وهضابها المطر كل يوم ليمنح المدينة فرحاً دائماً ونقاءً سرمديا، مما يجعلها مؤهلة لتكون مركزاً للسياحة السعودية دون منازع، لكنها لا تزال تحتاج المزيد من الجهد والعمل، وتجهيز مشاريع ضخمة تساهم في توفير الخدمات السياحية الممتازة، من فنادق ومتنزهات بمواصفات عالمية، وهو ما يجب أن يتم عبر تحفيز رجال الأعمال للاستثمار في هذا المجال، والضغط على البلديات والأجهزة الحكومية ذات الصلة بتقديم التسهيلات اللازمة لإنجاز هذه المشاريع، وتخصيص الأراضي المميزة للمشاريع السياحية لا لصناعةٍ غيرها، بعيداً عن الروتين والعراقيل التي تضعها بعض الجهات الحكومية، فالمطلوب تكاتفها جميعاً لخدمة المشاريع والقائمين عليها، لا أن تكون سوطا مسلطا عليها، حتى نتمكن من استغلال المكان والطبيعة الرائعة الساحرة، وتكملة مسيرة المشاريع السياحية الكبرى في المنطقة، لجعلها الوجهة السياحة الأولي ذات الخمسة نجوم.
أخيراً، أجزم أنه لو عاش الشاعر بدر شاكر السياب في أبها لما كتب قصيدته الشهيرة "أنشودة المطر" بنفس "النغمة الحزينة" وربما قال لمحبوبته وهو يتابع زخات المطر في "عروس الجنوب": "أتعلمين أيَّ فرح يبعث المطر؟".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق